دخول
المنتدى
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 134 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 134 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 299 بتاريخ الأحد أكتوبر 06, 2024 8:58 pm
فيس بوك
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
قم بحفض و مشاطرة الرابط محمد الجزائري والحديقة الالكترونية على موقع حفض الصفحات
قم بحفض و مشاطرة الرابط الحديقة الاسلامية _ALHADEQA ISLAMIC على موقع حفض الصفحات
الهجرة دروس وعبر، سلوك وأخلاق (2)
الحديقة الاسلامية _ALHADEQA ISLAMIC :: المنتدى العام :: اسلاميات الحديقة :: الحديقة الاسلامية :: الحياة دنيا ودين _سلوك واخلاق
صفحة 1 من اصل 1
الهجرة دروس وعبر، سلوك وأخلاق (2)
الحمد لله الواحِدِ الأحَدِ، الفَرد الصَّمد الذي ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3 - 4].
الحمد لله قامَتْ بربِّها الأشياء، وسبَّحت بحمده الأرض والسَّماء، وما زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى وصِفاته العُلَى، فما من شيءٍ إلاَّ هو خالِقُه، ولا من فضلٍ إلاَّ هو سائِقُه، ولا من رِزقٍ إلاَّ هو رازِقُه، ولا من أمرٍ إلاَّ هو مُدبِّره؛ ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].
ونشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله، لا نَعبُد إلاَّ إيَّاه، مُخلِصين له الدِّين ولو كره الكافرون، سبحانه كتَب على نفسه البَقاء، وكتَب على خَلقِه الفَناء، وقدَّر ما كان قبل أنْ يكون في اللَّوح والقلَم، وخلَق آدَم وجعَل من نَسلِه العرب والعجم، وأرسَلَ رُسلَه الكِرام المصطَفَيْن الأخيار، واتَّبعهم من الصالحين المصلحين الأطهار، حتى صاروا أمَّة مُترامِيَة الأطراف، تعبُد الله ربًّا، وتُؤمِن بمحمَّد رسولاً، وتَدِين بالإسلام دينًا، وتَرفَع راية "لا إله إلاَّ الله.. محمد رسول الله".
ونشهَدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا وقُدوَتنا محمدًا رسولُ الله - صلوات ربي وسلامه عليه - اعتزَّ بالله فأعزَّه، واستَنصَر بالله فنصَرَه، وتوكَّل على الله فكَفاه، وتَواضَع لله فرفَعَه وذلَّل له رِقاب الكافرين - صلوات ربي وسلامه عليه.
جمَع الناس من شَتات، وأحياهم من مَوات، علَّمَهم من جَهالة، وهَداهم من ضَلالة، وأخرَجَهُم من الظُّلمات إلى النُّور بإذن ربِّه، ففتَح الله برسالته أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلفًا - صلوات ربي وسلامه عليه.
ألانَ لنا خُشونةَ الحياة، وأبان لنا طريقَ النَّجاة، وأنارَ لنا ظُلمات الأرض، وهَدانا إلى الصِّراط المستقيم؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52 - 53] - صلوات ربي وسلامه عليه.
أخَذ بأيدينا من الضَّعف إلى القوَّة، ومن الفَقر إلى الغِنَى، ومن الذلَّة إلى العزَّة - لَمَّا جاءنا بهذا الدِّين، وعندما جاءَنا بهذه الرسالة، وحينما جاءَنا بهذه العقيدة ووضَعَها بين أيدينا؛ فجعَلَنا على المحجَّة البَيْضاء، ليلها كنهارها، وصبحها كمسائها، وغدها كأمسها، صِراطٌ مستقيمٌ على طول الخط؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
لا يزيغ عنها إلاَّ فاسقٌ؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
ولا يجحَدُها إلاَّ مُفسِدٌ؛ ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].
ولا يَرغَبُ عنها إلاَّ سفيهٌ؛ ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ... ﴾ [البقرة: 130].
ولا يصدُّ عنها إلا ضال ومنافق؛ ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 3]، ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 61].
اليومَ نبدَأُ عامًا هجريًّا جديدًا، وبالأمس مضى عامٌ بحُلوِه ومُرِّه، بخيرِه وشرِّه، بيُسرِه وعُسرِه، بأفْراحه وأتْراحه، بحسَناتِه وسيِّئاته، وجاءَنا اليومُ لنبدأ صفحةً جديدةً مع ربِّنا وخالِقنا ورازِقنا!
الهجرة والتاريخ:
لقد كان التاريخ الهجري هو التاريخ الفرد الذي نُرتِّب به شؤونَنا، ونُؤرِّخ به أيَّامنا، ونُنظِّم به حَياتَنا، ونُثبت به وقائعَنا، ثم زاحَمَه التاريخ الإفرنجي الميلادي، حتى زحزَحَه من مَكانِه، وأخرَجَه من ديوانه، فتصدَّر الدفاتر والدَّساتير، وتقدَّم الأعمال والأحوال، في غفلةٍ من أصحابه وحرَّاسه، حتى أمسى الناس يحتَفِلون بالهِجرة في أشكالٍ وألوانٍ لا طعم لها، ولا هدف لها، ولا طائل من ورائها، ودون فائدة، إلاَّ مَن رحم ربي وعصَم!
ورحم الله الفاروقَ - رضِي الله عنه - الذي لم يجد حدثًا أروع ولا أشمل ولا أبلغ من الهجرة حتى يُؤرِّخ به، والتَّأرِيخ به هنا من مَعانِيه وأهدافه ربما ذكَر هذا العمل على الدَّوام؛ فالهجرة هنا مَلحَمةٌ أنارَتْ وجْه الدُّنيا، وأضاءَتْ أركانَ الكون، وبيَّضت وجْه التاريخ!
الهجرة واستثمار الوقت:
الإنسان من طبيعته النِّسيان؛ لأنَّه لو تذكَّر ما ألَمَّ به من آلامٍ وأحزان، وما أحاطَه من مكايد وشدائد، لكَرِهَ العيش، وسَئِمَ الحياة، إنما رَحِمَه الله فجعَلَه يتذكَّر القريب، فإذا ضرَبَه الزمنُ بأيَّامه ولياليه فإنَّ الأيَّام تنتَهِي، والساعات تنقَضِي، والجروح تندَمِل، والأحزان تنمَحِي، ويشغل الإنسان بحاضِرِه؛ لكن هل ما يَنساه الإنسان يَنساه الملك الديَّان؟! كلاَّ ثم كلاَّ، وإنما الأمم - أفرادًا وجماعات - تفعل ما تفعل، وتَترُك ما تَترُك، لكنَّها يومًا ما ستَقِف أمام ربِّها، وستُواجَه بما فعلت وستُحاسَب بما تركت؛ ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 28].
الإنسان مُراقَبٌ على مَدار اللحظة، العلم الإلهي يَنسَخُ ما يفعل، ويُسجِّل ما يَترُك حتى يوم العرض الأكبر؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، لا جُيُوب ولا نُتُوءات، لا خَزائن ولا حصَّالات، هناك يَنطِق ما سجَّلت، ويخرُج ما طبعت؛ ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].
عملك يُنسَخ في آلةٍ إلهيَّة لا تضلُّ ولا تَنسَى، ويُحفَظ في مكانٍ مأمونٍ لا يتلف ولا يُسرَق ولا يُصادَر، ولا يتغيَّر بتغيُّر المناخ من أعاصير أو رِياح، كلاَّ، وإنما ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 - 8]، كيف؟! ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
لا ظُلم ولا جور، وإنما هُناك العدل المُطلَق الذي قامَتْ عليه السَّماوات والأرض؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، كيف ذلك؟ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، ورغم ذلك يُكذِّبون ويُجادِلون ويُلهِيهم الأمل!
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3].
كلَّما مرَّ عامٌ عليك يجب أنْ يُعلَن فيك أنَّك تقتَرِب من قبرك، وتقتَرِب من آخِرتك، وتقتَرِب من ربِّك، وتقتَرِب من حِسابك، وتقتَرِب من مَصِيرك!
تقتَرِب من عملك الذي عملتَ، الليل والنهار يَعمَلان فيك فاعمَل فيهما، يُقرِّبان كلَّ بعيد، ويُبلِيان كُلَّ جديد، ويفلاَّن كلَّ حديد، أنت بين يومٍ مشهود ويومٍ موعود، فقدِّم لليومَيْن، واعمَل للدارَيْن، اعمَل لمعادك كما تعمل لمعاشك، واعمَل لآخِرتك كما تعمَل لدُنياك، الله - عزَّ وجلَّ - يُقسِم بأجزاء الوقت: يُقسِم بالليل ويُقسِم بالنَّهار، يُقسِم بالفجر ويُقسِم بالعصر، والعظيم لا يُقسِم إلا بعظيم، ولا يُقسِم الله - عزَّ وجلَّ - بشيءٍ إلاَّ ليلفتنا إليه، يلفتنا إلى قيمة الوقت فلا يُقتَل ولا يَضِيع!
يريد الله أنْ نستَبِين المؤمنَ من الكافِر، والجاحِد من الشَّاكِر، والناسي من الذاكر، والصادق من المنافق؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، نعم، إذا انكَشَف نِقاب الليل الأسود عن وجْه الصُّبح الأبيض أذَّن مُؤذِّن الفجر، وإذا زالت الشمس عن كبد السَّماء أذَّن مؤذِّن الظُّهر، وإذا أصبح ظلُّ الشيء مثله أذَّن مُؤذِّن العصر، وإذا غابَ قُرصُ الشَّمس أذَّن مُؤذِّن المغرب، وإذا غاب الشَّفق الأحمر أذَّن مُؤذِّن العِشاء... لماذا؟ حتى نعتَبِر - نحن المسلمين - ونعلم أنَّ الوقت هو ثروتنا، هو حياتنا، هو وجودنا، يجب أنْ نستغلَّه ونستهدفه، ونضَع له الخطط لِمَصلَحة دِينِنا ودُنيانا، لنَجعَل الدُّنيا مَزرَعةً للآخِرة، وإلاَّ سنُذبَح بهذا الوقت، إنَّه كالسيف إنْ لم تقطَعْه قطَعَك!
العام اثنا عشر شَهْرًا، والشهر ثلاثون يومًا، واليوم أربعٌ وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة، وفي كُلِّ دقيقة كم من نَفَسٍ يتردَّد، وكم من قلبٍ ينبض، وكم من عينٍ تطرف، وكم من نعمةٍ تغمرك "من ساسك إلى راسك"، ومن شعرك إلى قدمك، ماذا أنتَ صانعٌ في هذا الوقت؟ هل تَشكُر هذه النِّعمة؟ هل تستغلُّ هذا الوقت في الذِّكر والتسبيح؟ أتستغلُّه في الشُّكر والتَّهليل؟ أتَقضِيه في طاعة الله؟ هل تبتَغِي المال الحلال؟ هل تتذكَّر أولئك الذين صدَقُوا وتَنحاز إليهم!
الهجرة وجيل الصحابة:
لنقف مع أنفُسِنا وقفةً مع هذا الجيل الفريد، جيل الصحابة الأطهار الذين اصطَفاهم الله - تعالى - لدِينِه، واختارَهم لصُحبَة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الجيل الذي سطر مَلحَمة الهِجرة وأنارَ الدُّنيا بنور القُرآن، هذا الجيل الذي خَلَّدَه الله - تعالى - في القُرآن المكي؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، وذكرَهُم كذلك في القرآن المدني؛ ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 63].
الصحابة الذين لم تنجب الأرض مثلَهم - ولن تُنجِب الأرض مثلهم - كانوا أفضل أهلِ الأرض من البشَر بعد الأنبياء والرُّسل؛ إيمانًا وإحسانًا، شَجاعةً وإقدامًا، صَفاء نفوس، ونَقاء سَرِيرة، وحُسن سُلوك وزُهدًا في الدُّنيا، ورغبة في الآخرة، إقبالاً على الله، بذلاً للنفس والنفيس، وتضحيةً بكلِّ شيءٍ في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - هؤلاء الذين أخلَصُوا لله نَواياهم، وصفُّوا لله سَرائِرهم، وترفَّعت عن الدُّنيا هممهم، وذهَبُوا عن المَتاع الوقتي والاطمِئنان الدُّنيوي، فَهِمُوا أنَّ ذلك يُورِد المهالك، كيف؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7 - 8].
مع أنهم فُقَراء إلاَّ أنَّهم ترَكُوا دِيارهم وأموالهم، بل أبناءَهم وأهليهم، لماذا؟ ليَنصُروا الله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]، هذه أهدافهم، وهذه ميولهم، وهذه رَغباتهم، يَبتَغُون من فضْل الله، يَنصُرون الله، يَنصُرون رسولَ الله؛ لذلك صدقهم الله؛ ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
أين نحن من فضل الله؟! وأين نحن من رِضوان الله؟! وأين نحن من كتاب الله؟! وأين نحن من رسول الله؟! أين نحن من دَعوة الله ومن منهج الله ومن سنَّة رسول الله؟! يُوجِّهنا الله - تعالى - أنْ نَنحازَ إلى هؤلاء، نحبُّهم ونُصدِّقهم؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
مهاجرون وأنصار سطروا مَلحَمةً نحن لا نتغنَّى بها ولا نَطرَب لها بقدر ما ندرسها ونتعلَّم منها الدَّرس والتَّطبيق، ونأخُذ منها العِبرَة والعِظَة، الهجرة ليست كلمة، ليست قصَّة، إنما هي تاريخ، إنما هي دين، إنما هي عقيدة، إنما هي رسالة، إنما هي عمل جماعي مُنقَطِع النَّظير، الهجرة إسلام، والإسلام استِسلامٌ لله، لا لأحدٍ سِواه!
هل نحتَفِل بالأحداث كما يحتَفِل الآخَرون؟! يُوقِدون الشُّموع ويُطفِئون الأنوار، يطعمون الحرام، ويشرَبُون ما يزيد الآثام، يُقدِّسون الحاضر ويَعبُدون التراب ويعصون الملك الوهَّاب، كلاَّ، المسلم ليس كذلك؛ المسلم يَنظُر ببصره وبَصِيرته إلى أصله الضارب في أعماق الزمن، إلى أولئك الذين سطروا هذه الملحمة، من مهاجرين وأنصار، الذين ارتضوا لأنفُسِهم هذا الخيار، نصرة الله - تعالى - ورسوله المختار، الذين تبوَّؤوا الإيمان والدار، يحبُّون المهاجرين ويحملون لهم أعظَم الإيثار، فنجَحُوا في الدنيا وأفلَحُوا في عُقبَى الدار، حازُوا الجنَّة ونجوا من النار، يَدخُل أحدُهم إلى إيمانه كما يَدخُل أحدهم إلى داره؛ ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، هذا قرآن، هذا كلام الله، هذا منهج حياة، هذا طريق النَّجاة!
لم تكن الهجرة رحلةً ترفيهيَّة، أو جولةً سياحيَّة، أو نقلةً استكشافيَّة، كلاَّ، وإنما هي خروجُ رجلٍ آمِنٍ في سِربِه، قَرِير في بَيتِه، قانعًا برزق ربِّه، حامِلاً وَلدَه إلى مصيرٍ مجهول، ومكانٍ معزول، وطريق موعور، لا يَدرِي أيهلك أوَّل الطريق أو آخِره، لكنَّه يذهب برضا نفسٍ ونَقاء سريرة؛ يذهب لأنَّه يحبُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
الهجرة والإيمان:
نعم، إنَّه الإيمان الذي يَزِنُ الجبالَ ولا يطيش، إيمان بِمَن؟! إيمان بالله، ومَن هو الله؟! ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70]، إيمان يُوجِّهنا نحوَ الجهاد والعقيدة، نحو السُّموِّ والعلوِّ، نحو السِّباق والإشراق، نحو الإحسان والرِّضوان، نحو النَّجاح والفَلاح، ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
نعم، حرَّر الله عقيدتهم من الأوثان إلى الإيمان، وقلوبهم من القَسوة إلى الرَّحمة، وعقولهم من الضَّلال إلى الهدى، ونفوسهم من التنابُز بالألقاب والتفاخُر بالأنساب إلى ذِكر ربِّ الأرباب، فكان ما كان من هؤلاء الذين سطروا مستقبلاً باهرًا لهذه الأمَّة؛ سلوكًا وأخلاقًا، صفاءً ونقاءً، تَلاحُمًا وإخاءً، تقديرًا واحتِرامًا، تقدُّمًا وازدِهارًا، مجدًا وتاريخًا، إنَّه الإيمان.
تَشعُر أنَّك تمتَلِك الدُّنيا إذا امتَلكتَ الإيمان، كيف؟ هل للحياة قيمةٌ بدون الإيمان؟! كلاَّ، إذا رُزِقتَ الإيمان فأنت مرزوقٌ، وإذا حُرِمت الإيمان فأنت محروم، على أيِّ لونٍ كانت الحياة؛ قويًّا أو ضعيفًا، غنيًّا أو فقيرًا، مريضًا أو سليمًا، حاكمًا أو محكومًا، الإيمان مع الحاكم حاجز ألاَّ يظلم، ومع القوي عاصمٌ ألاَّ يستبدَّ، ومع الغني هادٍ ألاَّ يبذِّر، ومع الفقير راشدٌ ألاَّ يَسأَل الناس إلحافًا، بل يأكُل بالمعروف، وهذا ما كان عليه جِيلُ الصحابة من المهاجرين والأنصار!
انطِلاقًا من الهجرة سطِّر صَفحاتك، دوِّن كتابك:
الهجرة تُذكِّرنا عامًا جديدًا، كتاب تعداد صفحاته يُقارِب هذا عدد أيام السنة الميلادية، أما الهجرة فيقارب: 354يومًا، كيف تبدؤه؟ كيف تقدِّم له؟ ماذا تكتُب فيه؟ صلاة فجر، قيام ليل، قراءة قرآن، طاعة والِدَيْن، حُسن جُوار، أمرٌ بمعروف، نهيٌ عن مُنكَر، إحقاق حق، إبطال باطل، جِهاد ورَشاد، طاعة وانقِياد، سطِّر، اكتُب، اعمَل!
ألاَ تكون مثل أبي سلمة يسطر أسمى آيات التضحية والفِداء في اللحاق برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك زوجته!
ألاَ تكون مثل صُهَيب الرُّومي الذي ضرَب أسمى أنواع البَذْلِ حين فرَّط في ماله من أجل اللحاق برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم!
ألاَ تكون مثل أبي بكرٍ الصاحب المُخلِص في البيت (يُجهِّز الدابَّة ويَبكِي من الفرح لصُحبَة النبيِّ رغم الأخطار، ويُوظِّف أهلَ بيته في الدعوة)، وفي الطريق (يُراقِب الرَّصَدَ، ويَمشِي من خلف رسول الله ومن أمامه وعن شماله وعن يمينه؛ خوفًا عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفي الغار (يستَكشِفه فيجد ثقوبًا فيسدها حتى بقي ثقبٌ يضَع فيه أصبعه فتلدَغه الحيَّة، فيظل ساكنًا حتى لا يقلق صاحبه).
إنها ملحمة تستنفرنا جميعًا نحو الحركة لمصلحة الدين والدَّعوة، لمصلحة الإسلام والرسالة، لمصلحة العقيدة والآخرة!
الهجرة حركة:
أنت إذا احتَجتَ للطَّعام تَسعَى لكسب الحلال (حركة)، إذا احتَجتَ للمرأة تسعى إلى الزواج (حركة)، إذا احتَجتَ إلى إثبات الذات تَسعَى للجد والاجتهاد من أجل التفوُّق (حركة)، فلماذا لا تتحرَّك من أجل دينك، إسلامك، ربك، عقيدتك؟! لا تَظلِم نفسك بالقعود، بالجلوس، بالركون، بالسكون، وإلاَّ كنت من أهل هذه الآية؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
لا تَبقَى مع الظالمين أو المُنافِقين أو الكذَّابين، اهجُرهُم، إنها الهجرة بمعناها الواسع، ولا تَبقَى مع أرباب الذُّنوب والآثام، لا تستمرَّ في كهف المعاصي، بل انتَقِل فورًا إلى كهف الطاعات، تُدرِكك من الله بركات ورحمات؛ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
والكهف هنا بمعناه الواسع أيضًا، أنت في غُرفَتك تُذاكِر لتتفوَّق وتخدم دينك، فأنت مهاجر، أنت في مُصلاَّك تَذكُر ربَّك وتشكره ليهديك الطريق، فأنت مهاجر، أنت في عملك تُتقِنه لترفع من شأنِ أمَّتك، فأنت مهاجر، أنت ترفَعُ لِواء الحقِّ وتسقط راية الباطل وتَغِيظ أعوان الباطل، فأنت مهاجر، أنت تَأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فأنت مهاجر، وهذا ما عَناه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفِرتم فانفِرُوا))؛ تحقيق الألباني: (صحيح) انظُر حديث رقم: 7563 في "صحيح الجامع".
ليست الهجرة الانتقال من بلدٍ ناءٍ إلى بلد قريب، أو من أرضٍ مجدبة إلى أرض خصبة، كلاَّ، إنها هجرة النُّفوس قبل البيوت، إنها هِجرة القلوب قبل القصور، إنَّ رجلاً هاجَر وهو ضعيفٌ مريض عاجز، فأدركه الموت في الطريق فقال مَن قال: لو وصل المدينة وأكمل الهجرة لحازَ الأجر كلَّه، فأنزَلَ الله قرآنًا يَهدِي النُّفوس ويُطمئِن القلوب، ويضع النقاط فوق الحروف، يربط الأعمال بالنيَّات ابتِداءً؛ ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100].
اللهم اجعَلْنا مُهاجِرين إليك، فارِّين إليك، مُتوجِّهين إليك، مُستَعِينين بك، مُتوكِّلين عليك، اللهم ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبَر همِّنا ولا مَبلَغ علمنا، وصَلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
الحمد لله قامَتْ بربِّها الأشياء، وسبَّحت بحمده الأرض والسَّماء، وما زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى وصِفاته العُلَى، فما من شيءٍ إلاَّ هو خالِقُه، ولا من فضلٍ إلاَّ هو سائِقُه، ولا من رِزقٍ إلاَّ هو رازِقُه، ولا من أمرٍ إلاَّ هو مُدبِّره؛ ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].
ونشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله، لا نَعبُد إلاَّ إيَّاه، مُخلِصين له الدِّين ولو كره الكافرون، سبحانه كتَب على نفسه البَقاء، وكتَب على خَلقِه الفَناء، وقدَّر ما كان قبل أنْ يكون في اللَّوح والقلَم، وخلَق آدَم وجعَل من نَسلِه العرب والعجم، وأرسَلَ رُسلَه الكِرام المصطَفَيْن الأخيار، واتَّبعهم من الصالحين المصلحين الأطهار، حتى صاروا أمَّة مُترامِيَة الأطراف، تعبُد الله ربًّا، وتُؤمِن بمحمَّد رسولاً، وتَدِين بالإسلام دينًا، وتَرفَع راية "لا إله إلاَّ الله.. محمد رسول الله".
ونشهَدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا وقُدوَتنا محمدًا رسولُ الله - صلوات ربي وسلامه عليه - اعتزَّ بالله فأعزَّه، واستَنصَر بالله فنصَرَه، وتوكَّل على الله فكَفاه، وتَواضَع لله فرفَعَه وذلَّل له رِقاب الكافرين - صلوات ربي وسلامه عليه.
جمَع الناس من شَتات، وأحياهم من مَوات، علَّمَهم من جَهالة، وهَداهم من ضَلالة، وأخرَجَهُم من الظُّلمات إلى النُّور بإذن ربِّه، ففتَح الله برسالته أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلفًا - صلوات ربي وسلامه عليه.
ألانَ لنا خُشونةَ الحياة، وأبان لنا طريقَ النَّجاة، وأنارَ لنا ظُلمات الأرض، وهَدانا إلى الصِّراط المستقيم؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52 - 53] - صلوات ربي وسلامه عليه.
أخَذ بأيدينا من الضَّعف إلى القوَّة، ومن الفَقر إلى الغِنَى، ومن الذلَّة إلى العزَّة - لَمَّا جاءنا بهذا الدِّين، وعندما جاءَنا بهذه الرسالة، وحينما جاءَنا بهذه العقيدة ووضَعَها بين أيدينا؛ فجعَلَنا على المحجَّة البَيْضاء، ليلها كنهارها، وصبحها كمسائها، وغدها كأمسها، صِراطٌ مستقيمٌ على طول الخط؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
لا يزيغ عنها إلاَّ فاسقٌ؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
ولا يجحَدُها إلاَّ مُفسِدٌ؛ ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].
ولا يَرغَبُ عنها إلاَّ سفيهٌ؛ ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ... ﴾ [البقرة: 130].
ولا يصدُّ عنها إلا ضال ومنافق؛ ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 3]، ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 61].
اليومَ نبدَأُ عامًا هجريًّا جديدًا، وبالأمس مضى عامٌ بحُلوِه ومُرِّه، بخيرِه وشرِّه، بيُسرِه وعُسرِه، بأفْراحه وأتْراحه، بحسَناتِه وسيِّئاته، وجاءَنا اليومُ لنبدأ صفحةً جديدةً مع ربِّنا وخالِقنا ورازِقنا!
الهجرة والتاريخ:
لقد كان التاريخ الهجري هو التاريخ الفرد الذي نُرتِّب به شؤونَنا، ونُؤرِّخ به أيَّامنا، ونُنظِّم به حَياتَنا، ونُثبت به وقائعَنا، ثم زاحَمَه التاريخ الإفرنجي الميلادي، حتى زحزَحَه من مَكانِه، وأخرَجَه من ديوانه، فتصدَّر الدفاتر والدَّساتير، وتقدَّم الأعمال والأحوال، في غفلةٍ من أصحابه وحرَّاسه، حتى أمسى الناس يحتَفِلون بالهِجرة في أشكالٍ وألوانٍ لا طعم لها، ولا هدف لها، ولا طائل من ورائها، ودون فائدة، إلاَّ مَن رحم ربي وعصَم!
ورحم الله الفاروقَ - رضِي الله عنه - الذي لم يجد حدثًا أروع ولا أشمل ولا أبلغ من الهجرة حتى يُؤرِّخ به، والتَّأرِيخ به هنا من مَعانِيه وأهدافه ربما ذكَر هذا العمل على الدَّوام؛ فالهجرة هنا مَلحَمةٌ أنارَتْ وجْه الدُّنيا، وأضاءَتْ أركانَ الكون، وبيَّضت وجْه التاريخ!
الهجرة واستثمار الوقت:
الإنسان من طبيعته النِّسيان؛ لأنَّه لو تذكَّر ما ألَمَّ به من آلامٍ وأحزان، وما أحاطَه من مكايد وشدائد، لكَرِهَ العيش، وسَئِمَ الحياة، إنما رَحِمَه الله فجعَلَه يتذكَّر القريب، فإذا ضرَبَه الزمنُ بأيَّامه ولياليه فإنَّ الأيَّام تنتَهِي، والساعات تنقَضِي، والجروح تندَمِل، والأحزان تنمَحِي، ويشغل الإنسان بحاضِرِه؛ لكن هل ما يَنساه الإنسان يَنساه الملك الديَّان؟! كلاَّ ثم كلاَّ، وإنما الأمم - أفرادًا وجماعات - تفعل ما تفعل، وتَترُك ما تَترُك، لكنَّها يومًا ما ستَقِف أمام ربِّها، وستُواجَه بما فعلت وستُحاسَب بما تركت؛ ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 28].
الإنسان مُراقَبٌ على مَدار اللحظة، العلم الإلهي يَنسَخُ ما يفعل، ويُسجِّل ما يَترُك حتى يوم العرض الأكبر؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، لا جُيُوب ولا نُتُوءات، لا خَزائن ولا حصَّالات، هناك يَنطِق ما سجَّلت، ويخرُج ما طبعت؛ ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].
عملك يُنسَخ في آلةٍ إلهيَّة لا تضلُّ ولا تَنسَى، ويُحفَظ في مكانٍ مأمونٍ لا يتلف ولا يُسرَق ولا يُصادَر، ولا يتغيَّر بتغيُّر المناخ من أعاصير أو رِياح، كلاَّ، وإنما ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 - 8]، كيف؟! ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
لا ظُلم ولا جور، وإنما هُناك العدل المُطلَق الذي قامَتْ عليه السَّماوات والأرض؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، كيف ذلك؟ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، ورغم ذلك يُكذِّبون ويُجادِلون ويُلهِيهم الأمل!
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3].
كلَّما مرَّ عامٌ عليك يجب أنْ يُعلَن فيك أنَّك تقتَرِب من قبرك، وتقتَرِب من آخِرتك، وتقتَرِب من ربِّك، وتقتَرِب من حِسابك، وتقتَرِب من مَصِيرك!
تقتَرِب من عملك الذي عملتَ، الليل والنهار يَعمَلان فيك فاعمَل فيهما، يُقرِّبان كلَّ بعيد، ويُبلِيان كُلَّ جديد، ويفلاَّن كلَّ حديد، أنت بين يومٍ مشهود ويومٍ موعود، فقدِّم لليومَيْن، واعمَل للدارَيْن، اعمَل لمعادك كما تعمل لمعاشك، واعمَل لآخِرتك كما تعمَل لدُنياك، الله - عزَّ وجلَّ - يُقسِم بأجزاء الوقت: يُقسِم بالليل ويُقسِم بالنَّهار، يُقسِم بالفجر ويُقسِم بالعصر، والعظيم لا يُقسِم إلا بعظيم، ولا يُقسِم الله - عزَّ وجلَّ - بشيءٍ إلاَّ ليلفتنا إليه، يلفتنا إلى قيمة الوقت فلا يُقتَل ولا يَضِيع!
يريد الله أنْ نستَبِين المؤمنَ من الكافِر، والجاحِد من الشَّاكِر، والناسي من الذاكر، والصادق من المنافق؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، نعم، إذا انكَشَف نِقاب الليل الأسود عن وجْه الصُّبح الأبيض أذَّن مُؤذِّن الفجر، وإذا زالت الشمس عن كبد السَّماء أذَّن مؤذِّن الظُّهر، وإذا أصبح ظلُّ الشيء مثله أذَّن مُؤذِّن العصر، وإذا غابَ قُرصُ الشَّمس أذَّن مُؤذِّن المغرب، وإذا غاب الشَّفق الأحمر أذَّن مُؤذِّن العِشاء... لماذا؟ حتى نعتَبِر - نحن المسلمين - ونعلم أنَّ الوقت هو ثروتنا، هو حياتنا، هو وجودنا، يجب أنْ نستغلَّه ونستهدفه، ونضَع له الخطط لِمَصلَحة دِينِنا ودُنيانا، لنَجعَل الدُّنيا مَزرَعةً للآخِرة، وإلاَّ سنُذبَح بهذا الوقت، إنَّه كالسيف إنْ لم تقطَعْه قطَعَك!
العام اثنا عشر شَهْرًا، والشهر ثلاثون يومًا، واليوم أربعٌ وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة، وفي كُلِّ دقيقة كم من نَفَسٍ يتردَّد، وكم من قلبٍ ينبض، وكم من عينٍ تطرف، وكم من نعمةٍ تغمرك "من ساسك إلى راسك"، ومن شعرك إلى قدمك، ماذا أنتَ صانعٌ في هذا الوقت؟ هل تَشكُر هذه النِّعمة؟ هل تستغلُّ هذا الوقت في الذِّكر والتسبيح؟ أتستغلُّه في الشُّكر والتَّهليل؟ أتَقضِيه في طاعة الله؟ هل تبتَغِي المال الحلال؟ هل تتذكَّر أولئك الذين صدَقُوا وتَنحاز إليهم!
الهجرة وجيل الصحابة:
لنقف مع أنفُسِنا وقفةً مع هذا الجيل الفريد، جيل الصحابة الأطهار الذين اصطَفاهم الله - تعالى - لدِينِه، واختارَهم لصُحبَة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الجيل الذي سطر مَلحَمة الهِجرة وأنارَ الدُّنيا بنور القُرآن، هذا الجيل الذي خَلَّدَه الله - تعالى - في القُرآن المكي؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، وذكرَهُم كذلك في القرآن المدني؛ ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 63].
الصحابة الذين لم تنجب الأرض مثلَهم - ولن تُنجِب الأرض مثلهم - كانوا أفضل أهلِ الأرض من البشَر بعد الأنبياء والرُّسل؛ إيمانًا وإحسانًا، شَجاعةً وإقدامًا، صَفاء نفوس، ونَقاء سَرِيرة، وحُسن سُلوك وزُهدًا في الدُّنيا، ورغبة في الآخرة، إقبالاً على الله، بذلاً للنفس والنفيس، وتضحيةً بكلِّ شيءٍ في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - هؤلاء الذين أخلَصُوا لله نَواياهم، وصفُّوا لله سَرائِرهم، وترفَّعت عن الدُّنيا هممهم، وذهَبُوا عن المَتاع الوقتي والاطمِئنان الدُّنيوي، فَهِمُوا أنَّ ذلك يُورِد المهالك، كيف؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7 - 8].
مع أنهم فُقَراء إلاَّ أنَّهم ترَكُوا دِيارهم وأموالهم، بل أبناءَهم وأهليهم، لماذا؟ ليَنصُروا الله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]، هذه أهدافهم، وهذه ميولهم، وهذه رَغباتهم، يَبتَغُون من فضْل الله، يَنصُرون الله، يَنصُرون رسولَ الله؛ لذلك صدقهم الله؛ ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
أين نحن من فضل الله؟! وأين نحن من رِضوان الله؟! وأين نحن من كتاب الله؟! وأين نحن من رسول الله؟! أين نحن من دَعوة الله ومن منهج الله ومن سنَّة رسول الله؟! يُوجِّهنا الله - تعالى - أنْ نَنحازَ إلى هؤلاء، نحبُّهم ونُصدِّقهم؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
مهاجرون وأنصار سطروا مَلحَمةً نحن لا نتغنَّى بها ولا نَطرَب لها بقدر ما ندرسها ونتعلَّم منها الدَّرس والتَّطبيق، ونأخُذ منها العِبرَة والعِظَة، الهجرة ليست كلمة، ليست قصَّة، إنما هي تاريخ، إنما هي دين، إنما هي عقيدة، إنما هي رسالة، إنما هي عمل جماعي مُنقَطِع النَّظير، الهجرة إسلام، والإسلام استِسلامٌ لله، لا لأحدٍ سِواه!
هل نحتَفِل بالأحداث كما يحتَفِل الآخَرون؟! يُوقِدون الشُّموع ويُطفِئون الأنوار، يطعمون الحرام، ويشرَبُون ما يزيد الآثام، يُقدِّسون الحاضر ويَعبُدون التراب ويعصون الملك الوهَّاب، كلاَّ، المسلم ليس كذلك؛ المسلم يَنظُر ببصره وبَصِيرته إلى أصله الضارب في أعماق الزمن، إلى أولئك الذين سطروا هذه الملحمة، من مهاجرين وأنصار، الذين ارتضوا لأنفُسِهم هذا الخيار، نصرة الله - تعالى - ورسوله المختار، الذين تبوَّؤوا الإيمان والدار، يحبُّون المهاجرين ويحملون لهم أعظَم الإيثار، فنجَحُوا في الدنيا وأفلَحُوا في عُقبَى الدار، حازُوا الجنَّة ونجوا من النار، يَدخُل أحدُهم إلى إيمانه كما يَدخُل أحدهم إلى داره؛ ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، هذا قرآن، هذا كلام الله، هذا منهج حياة، هذا طريق النَّجاة!
لم تكن الهجرة رحلةً ترفيهيَّة، أو جولةً سياحيَّة، أو نقلةً استكشافيَّة، كلاَّ، وإنما هي خروجُ رجلٍ آمِنٍ في سِربِه، قَرِير في بَيتِه، قانعًا برزق ربِّه، حامِلاً وَلدَه إلى مصيرٍ مجهول، ومكانٍ معزول، وطريق موعور، لا يَدرِي أيهلك أوَّل الطريق أو آخِره، لكنَّه يذهب برضا نفسٍ ونَقاء سريرة؛ يذهب لأنَّه يحبُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
الهجرة والإيمان:
نعم، إنَّه الإيمان الذي يَزِنُ الجبالَ ولا يطيش، إيمان بِمَن؟! إيمان بالله، ومَن هو الله؟! ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70]، إيمان يُوجِّهنا نحوَ الجهاد والعقيدة، نحو السُّموِّ والعلوِّ، نحو السِّباق والإشراق، نحو الإحسان والرِّضوان، نحو النَّجاح والفَلاح، ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
نعم، حرَّر الله عقيدتهم من الأوثان إلى الإيمان، وقلوبهم من القَسوة إلى الرَّحمة، وعقولهم من الضَّلال إلى الهدى، ونفوسهم من التنابُز بالألقاب والتفاخُر بالأنساب إلى ذِكر ربِّ الأرباب، فكان ما كان من هؤلاء الذين سطروا مستقبلاً باهرًا لهذه الأمَّة؛ سلوكًا وأخلاقًا، صفاءً ونقاءً، تَلاحُمًا وإخاءً، تقديرًا واحتِرامًا، تقدُّمًا وازدِهارًا، مجدًا وتاريخًا، إنَّه الإيمان.
تَشعُر أنَّك تمتَلِك الدُّنيا إذا امتَلكتَ الإيمان، كيف؟ هل للحياة قيمةٌ بدون الإيمان؟! كلاَّ، إذا رُزِقتَ الإيمان فأنت مرزوقٌ، وإذا حُرِمت الإيمان فأنت محروم، على أيِّ لونٍ كانت الحياة؛ قويًّا أو ضعيفًا، غنيًّا أو فقيرًا، مريضًا أو سليمًا، حاكمًا أو محكومًا، الإيمان مع الحاكم حاجز ألاَّ يظلم، ومع القوي عاصمٌ ألاَّ يستبدَّ، ومع الغني هادٍ ألاَّ يبذِّر، ومع الفقير راشدٌ ألاَّ يَسأَل الناس إلحافًا، بل يأكُل بالمعروف، وهذا ما كان عليه جِيلُ الصحابة من المهاجرين والأنصار!
انطِلاقًا من الهجرة سطِّر صَفحاتك، دوِّن كتابك:
الهجرة تُذكِّرنا عامًا جديدًا، كتاب تعداد صفحاته يُقارِب هذا عدد أيام السنة الميلادية، أما الهجرة فيقارب: 354يومًا، كيف تبدؤه؟ كيف تقدِّم له؟ ماذا تكتُب فيه؟ صلاة فجر، قيام ليل، قراءة قرآن، طاعة والِدَيْن، حُسن جُوار، أمرٌ بمعروف، نهيٌ عن مُنكَر، إحقاق حق، إبطال باطل، جِهاد ورَشاد، طاعة وانقِياد، سطِّر، اكتُب، اعمَل!
ألاَ تكون مثل أبي سلمة يسطر أسمى آيات التضحية والفِداء في اللحاق برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك زوجته!
ألاَ تكون مثل صُهَيب الرُّومي الذي ضرَب أسمى أنواع البَذْلِ حين فرَّط في ماله من أجل اللحاق برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم!
ألاَ تكون مثل أبي بكرٍ الصاحب المُخلِص في البيت (يُجهِّز الدابَّة ويَبكِي من الفرح لصُحبَة النبيِّ رغم الأخطار، ويُوظِّف أهلَ بيته في الدعوة)، وفي الطريق (يُراقِب الرَّصَدَ، ويَمشِي من خلف رسول الله ومن أمامه وعن شماله وعن يمينه؛ خوفًا عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفي الغار (يستَكشِفه فيجد ثقوبًا فيسدها حتى بقي ثقبٌ يضَع فيه أصبعه فتلدَغه الحيَّة، فيظل ساكنًا حتى لا يقلق صاحبه).
إنها ملحمة تستنفرنا جميعًا نحو الحركة لمصلحة الدين والدَّعوة، لمصلحة الإسلام والرسالة، لمصلحة العقيدة والآخرة!
الهجرة حركة:
أنت إذا احتَجتَ للطَّعام تَسعَى لكسب الحلال (حركة)، إذا احتَجتَ للمرأة تسعى إلى الزواج (حركة)، إذا احتَجتَ إلى إثبات الذات تَسعَى للجد والاجتهاد من أجل التفوُّق (حركة)، فلماذا لا تتحرَّك من أجل دينك، إسلامك، ربك، عقيدتك؟! لا تَظلِم نفسك بالقعود، بالجلوس، بالركون، بالسكون، وإلاَّ كنت من أهل هذه الآية؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
لا تَبقَى مع الظالمين أو المُنافِقين أو الكذَّابين، اهجُرهُم، إنها الهجرة بمعناها الواسع، ولا تَبقَى مع أرباب الذُّنوب والآثام، لا تستمرَّ في كهف المعاصي، بل انتَقِل فورًا إلى كهف الطاعات، تُدرِكك من الله بركات ورحمات؛ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
والكهف هنا بمعناه الواسع أيضًا، أنت في غُرفَتك تُذاكِر لتتفوَّق وتخدم دينك، فأنت مهاجر، أنت في مُصلاَّك تَذكُر ربَّك وتشكره ليهديك الطريق، فأنت مهاجر، أنت في عملك تُتقِنه لترفع من شأنِ أمَّتك، فأنت مهاجر، أنت ترفَعُ لِواء الحقِّ وتسقط راية الباطل وتَغِيظ أعوان الباطل، فأنت مهاجر، أنت تَأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فأنت مهاجر، وهذا ما عَناه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفِرتم فانفِرُوا))؛ تحقيق الألباني: (صحيح) انظُر حديث رقم: 7563 في "صحيح الجامع".
ليست الهجرة الانتقال من بلدٍ ناءٍ إلى بلد قريب، أو من أرضٍ مجدبة إلى أرض خصبة، كلاَّ، إنها هجرة النُّفوس قبل البيوت، إنها هِجرة القلوب قبل القصور، إنَّ رجلاً هاجَر وهو ضعيفٌ مريض عاجز، فأدركه الموت في الطريق فقال مَن قال: لو وصل المدينة وأكمل الهجرة لحازَ الأجر كلَّه، فأنزَلَ الله قرآنًا يَهدِي النُّفوس ويُطمئِن القلوب، ويضع النقاط فوق الحروف، يربط الأعمال بالنيَّات ابتِداءً؛ ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100].
اللهم اجعَلْنا مُهاجِرين إليك، فارِّين إليك، مُتوجِّهين إليك، مُستَعِينين بك، مُتوكِّلين عليك، اللهم ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبَر همِّنا ولا مَبلَغ علمنا، وصَلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
مواضيع مماثلة
» الهجرة دروس وعبر سلوك وأخلاق
» محرم وعاشوراء دروس وعبر
» السمات الإيجابية في سلوك المؤمن وأخلاقه
» الأدب النبوي سلوك راقٍ.. ومنهج حياة
» من دروس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
» محرم وعاشوراء دروس وعبر
» السمات الإيجابية في سلوك المؤمن وأخلاقه
» الأدب النبوي سلوك راقٍ.. ومنهج حياة
» من دروس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحديقة الاسلامية _ALHADEQA ISLAMIC :: المنتدى العام :: اسلاميات الحديقة :: الحديقة الاسلامية :: الحياة دنيا ودين _سلوك واخلاق
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى